محاولة الامساك بالذاكرة في اعمال عبد الامير الخطيب                                

 

مجلة الفنان العراقي

 علي النجار.. السويد.

 

 

 ينفذ الامير اعماله بقصدية واضحة هي خليط من ذاكرة تستعصي على النسيان ومكتسبات معرفية وخليط من محيط متنوع حد الغرابة عاشة بعمق من اجل فهمه وبالتالي محاولة معايشته , احيانا بمحاذاتة واحيانا بالاندماج في تفاصيله المتنوعة وبشغف, ويمكن ان نطلق عليه افتراضا صفة المغترب المثالي . لقد جاب اضطرارا مثل بعض من ابناء جيله بلدانا اسيوية واوربية عديدة محملا ببعض من محمولاتها المعرفية  واثارها البيئية , ومن كل ذلك خرجت اعماله هذه , رغم انها لم تبتعد كثيرا عن ذاكرة طفولته الاولى باطيافها الاسطورية  ومحيط بيئتها .

  لقد شغل الفضاء حيزه المفضل, ليس اعتباطا , بل نوعا من انتماء اشمل . اولا هو حل مفترض لاشكالية الاغتراب . في حركتة الدائبة .. اختراق وانفلات ,  سكون وتفجر, وضوح ومجهول , فهو

ثقب هائل  لا يمنحنا اسراره بسهوله و عفوية, . ومن ا جل  الامساك بهذه المعادلة الصعبة حاول معمليا حصر حيز فضائه المفترض بحيز محدود والعمل على محاورته او ولوجه بادواته الخاصة .

 

  في بعض من نشأة عبد الامير الاولى يكمن سر انجذابه لبحثه الفضائي , لقد ولد وترعرع حتى عمر الشباب في مدينة غريبة ببيئتها المحيطية وتنوع ثقافتها واقتصادها. فالمدينة هذه مركز ديني ثقافي عريق ومتفتح على مدى ارحب . اذ انجبت خلال عمرها الطويل فن علم اللسان والشعر الكلاسيكي وتجارب الحداثه فيما بعد. ولكونها مدينة محاصرة بالرمال من كل جهاتها , تشكل اقتصادها تجاريا . هذه الامور طبعت اناسها بالفطرة الثقافية والتصرف الحضاري العلمي و العملي . وكلنا يعرف ما للنشأة الاولى من اثر على تكوين شخصية الانسان , والتي من الممكن ان نطلق عليها ( جينات البيئة ). هذه الجينات او,

 الحاضنات الاولى شكلت فيما بعد وعلى ما يبدو مشروع (الامير ) الفضائي هذا . اذ لا اصفى ولا اوضح او انقى من سماءه الاولى , سماء الصحراء الشاسعة . ومن اجل ان يحصر سماءه او فضاءه , قننه ضمن علب او انشاءات هيكليه , مثلما يعلب الغاز او الماء . وما اختلف  ان الامر هنا لعب فطن على مدلولات فلسفيه . ان الامر في بعض من دلالاته يحيلنا الى الرحم الاول , الرحم الفضائي الاشمل . من هنا نجد ان عبد الامير يحاول ولوج هذا الرحم من ثقبه الافتراضي ليستعيد طفولتة ( وكما هو واضح من دلالة موقع الثقب او الحفرة من مساحة اعماله),. عمر ما, فقده . او ليحاول التماهي في عمقه . ان الشاعر فيه لا يني يحاول عقلنة احلامه بادواته الفنية . بينما حسه العملي يحاول عقلنة هذا الحلم بادوات صناعية هي خليط من مواد انشائية اولية ومواد فنية.

    

 اعمال (امير)الانشائية سواء منها علبه (صناديقه) او اعمدته تحاول دوما مزاوجة كيمياءالتربة ومادة الفضاء او صداه , هي تربة غنية بتنوعها , اذ تنثال رمال الصحراء الذهبية على سطحها احيانا , واحيانا تربة مستعارة من قارات اخرى.فمهما حملها من اضافات ثانوية وتأثيث متنوع, فانها ترجعنا دوما لنشأتها

 

الاولية حيث تتماها وعناصرها الاولية. اما ما اضاعه من زمن معاش سوي فانه يتسلل من باب خفي لسطحها , دمى متنوعة مبعثرة , اشارات لجنس او رمز او دلالة كانت تسكنه زمنا , وجدت ضالتها في مشاع مساحته الجديده متجاوزه( تابو) ازمنة مضت.

 

   الجنس ( المذكر والمؤنث) ثيمة لا تغيب عن هذه الاعمال. هنالك دوما اختراق , شق عمودي شبق , دعوة للاختراق . وهناك اندفاع صاخب للامام او الفضاء سواء.في عتمة الداخل وفي تأثيث السطح الخارجي تكمن نوازع شتى , وفرق الغزل الصوفي الشرقي عن الغزل الدنيوي ضئيل ان لم يكن نفسه .

 

  هذه الاعمال الصناديق(العلب) اجدها مشاكسة في مادتها الاولية التي نفذت بها , هي حادة بعض الاحيان , وهي مألوفة احيان اخرى كأي قطعة اثاث وبما انها فن مصنع علينا ان نقبلها كما هي لتأخذ مكانها ضمن محيطنا المعماري المألوف.وفي محاولة متأخرة من الامير لتجاوز حيز اعماله , صنع صرحا كاملا . معبد ربما هو ,جمع في هذا العمل كل تقنياته وتصوراته السابقة

  المعبد الافتراضي .

.

   الفنان هنا لا يكتفي بما توفره مساحة الفراغ التي اشتغل عليها سابقا, كونها وكما وعاها لا تكتمل الا بفراغ فضائي اوسع . الفراغ الفضائي الا نهائي المنسل عبر ثقب اافتراضي اخر هو بوابة للفضاء. انه يحاول متابعةحلم رعاة النجوم العرب الاوائل في تخوم البحار. وبالامكان قراءة عمله هذا كنفق او منفذ للفضاء . لقد بناه بما حصل عليه من مهارة تقنية وبدراية واضحة. فاعمدته المصنعة من مواد  بقدرما تحمل من هشاشة تظيف لها الصبغة صلابة. ومثلما هي اعمدة متسامقة هي

نباتات متدافعة الى الاعالي بنتوءاتها وتقعراتها . لقد عمل على ان يكمل مربع فضائها الفراغي بسقف افتراضي هو مفردة من اعماله السابقة موضفة هنا بذكاء لتخدم غرضه العام . لقد وضع محفظته الفضائية هذه كسقف تعويضي (عن قبة الفضاء, اوقبة المعبد,والذي هو ثقب, او سقف سماء) وبأشياءه المنثوره (دلالاته الخاصة) على  ارتفاع مناسب. لقد لعب هذا العمل بمفرداته العديده دورا مزدوجا . هو معبد ارضي بما يدل عليه من معمارية واضحة . فقد حمل اعمدته من ضمن ما حملها قطع او كسر مرايا , شضايا مرايا وشضايا وجوه انسانية. فالمرايا عنصر مهم من عناصر المعمار المهيمن في معابد الشرق , حيث انكسارات الضوءالانهائية الساحرة تشكل حلقة من حلقات استشراقية عديده . وهوايضا لعب في الفضاء الفيزياوي والتلباثي(التخاطبي) . فبقدر ما يلامس الفضاء محيط اعمدته , بقدر ما تحافظ على حد من الحرية النسبية لاستقلاليتها كأجزاء متفردة. هذا الشد المحوري يجد منفذه في ثقب السقف ليتجاوب والفضاء الخارجي الواسع .

 كما ان صبغة المعبد او الهيكل الرصاصية تحيلنا الى حضارة الاسمنت الميكانيكية وتكرس العمل غرائبيا في تضاداته ( الاثرية والمعاصرة) وهذا التضاد او التوليفة هي جزء من نهج او اداء معاصر .

  

اخيرا اجد ان الفنان استطاع ان يوفق بين تأثيرات بيؤية متنوعة (شمالية وجنوبية) سواء بما وضف من مواد مصنعة او اطياف الوان صباغيه.. وهو بمعنى ما حول سيرته الشخصية الى سيرة اعمال شاملة لا تبتعد عن تجارب عالمية اخرى تحاول قراءة مستجدات ثقافية موازية و بادوات فنية متنوعة .

 

 

  علي النجار.. السويد.

                                        2003-10-23